الجين الأنانى (7): رحلتى من الجينات إلى الميمات

التطور مش مقتصر على البيولوجى والجينات

فكرة التطور (evolution) فى أغلب الوقت بتبقى مرتبطة فى ذهننا بالتطور البيولوجى. ولما نتكلم عن وجود Replicator بيكون نسخ جديدة من نفسه، ويبقى معرض لحدوث أخطاء فى عملية النسخ واللى تراكمها بيتسبب فى طفرات (mutations) وتغييرات كبيرة طول الوقت فى النسخ الجديدة، فيبدو هنا أننا بنتكلم تحديداً عن الجينات، فهل فكرة التطور مرتبطة بس بالبيولوجى والجينات؟!

فى كتاب الجين الأنانى، الحاج ريتشارد دوكينز شاف أننا ممكن نطبق فكرة التطور والجين الأنانى بتفاصيلها على موضوع مختلف تماما ألا وهو الثقافة والأفكار. أى نوع من المعلومات أو السلوكيات اللى بنتعلمها أو بتمثل جزء من ثقافتنا زيها زى الجينات من حيث فكرة انتشارها وتعرضها للطفرات أو التغييرات والتنافس بينها على البقاء، ويندرج تحت الكلام ده اللغة والأغانى والمعتقدات الدينية والفنون والعلوم وأى مكونات ثقافية بنتعامل معاها.

فعلى سبيل المثال نقدر نشوف تطور اللغات عبر الزمن ووجود تغييرات طول الوقت فى المفردات واللهجات واللى بتحصل بشكل عشوائى، فنلاقى لغة معينة تفرع منها لغات ولهجات حسب المناطق الجغرافية اللى انتقل ليها حاملين اللغة واللى كملوا رحلتهم فى توريثها وتطويرها بشكل مستقل عن المناطق اللى حواليهم وميعرفوش عنهم حاجة.

الMeme

وزى ما الgene هو الreplicator فى عالم البيولوجى، دوكينز افتكس replicator من نوع جديد وسماه "Meme" واللى هو بيعبر عن معلومة أو فكرة ما أو وحدة (unit) لانتقال الثقافة أو الأفكار. والكلمة دى أصلها "Mimeme" اللى ليها أصل يونانى واللى معناها مرتبط بالتقليد وملهاش علاقة بالمعنى السائد لكلمة meme دلوقتى، لكن عشان يخليها على نفس وزن كلمة Gene فسماها Meme. واتبنى على الافتكاسة دى مجال علمى جديد اسمه الMemetics لدراسة التطور الثقافى.

ومن المرة اللى فاتت شوفنا أن الgenes بتتعامل مع الكائنات الحية كمركبات (vehicles) بتعيش فيها وطول الوقت بتنتقل من مركبة للتانية عشان تحافظ على بقائها، فالmemes بتتعامل مع المخ على أنه المركبة اللى بتعيش فيها وطول الوقت بتحاول تنتقل من مخ إلى مخ تانى. المختلف هو أن الgenes بتنتقل عن طربق عملية التكاثر الجنسى، أما الMemes فبنتنقل عن طريق عملية الimitation أو التقليد. 

"Memes should be regarded as living structures, not just metaphorically but technically. When you plant a fertile meme in my mind you literally parasitize my brain, turning it into a vehicle for the meme's propagation in just the way that a virus may parasitize the genetic mechanism of a host cell."

وزى ما المختلف فى عالم الأفكار أو الميمات عن عالم البيولوجى أن التطور والتغييرات فيه بتحصل بسرعة أكبر بكتير جداً فكمان التنافسية هى كمان أعلى بكتير جداً .. كل فكرة أو معلومة بتحاول تنتشر فى أكبر عدد من العقول، وحيث أن المخ مهما كان يقدر يستوعب قدر كبير من المعلومات ففى النهاية سعته التخزينية ليها حدود وعدد البشر برده محدود زى بالظبط ما الموارد فى الطبيعة محدودة، فالمحدودية دى هى دايماً اللى بتتسبب فى وجود منافسة لأن مفيش مجال للتكاثر بشكل لا نهائى.

يمكن من أكتر الأمثلة اللى واضحة لينا دلوقتى على فكرة التنافسية هى الترندات على السوشيال ميديا، وازاى من وسط ملايين الملايين من الأفكار والمعلومات فيه منها اللى بينجح أنه يوصلنا وينتشر وغيرها كتير بيندثر.

وزى ما الجينات بيتجمعوا مع بعض ويتعاونوا فى تكوين كائنات أكبر وأعقد عشان يزودوا من فرص بقائهم، فالميمات بتعمل نفس الحكاية وممكن مجموعة من الأفكار يتجمعوا فى بناء واحد بحيث يدعموا بعض ويحافظوا على استمراريتهم. وكمثال على الموضوع ده هو المعتقدات الدينية واللى نقدر نلاقى فى أى معتقد دينى مجموعة من الأفكار اللى بتساعد على بقائه وانتشاره دوناً عن بقية المعتقدات أو الأفكار البشرية. فمثلاً ربط فكرة الجحيم بالمعتقد الدينى بيزود من قوته نتيجة التأثير السيكولوجى علينا، كذلك الإيمان بالغيبيات والتسليم والطاعة وغيرها كلها أفكار مختلفة اتجمعوا مع بعض وبيدعموا بعض فى بناء اسمه المعتقد الدينى.

الميمات والجينات أحياناً بيساعدوا بعض فى البقاء لكن مش بالضرورة يكونوا مرتبطين ببعض، فمثلاً أفكار زى الرهبنة أو البتولية أو تحديد النسل أو اللاانجابية مش مفيدة نهائى للجينات، لكن مع ذلك الفكرة ممكن تنتشر وتلاقى رواج عند مجموعة من البشر. والعكس برده أى فكرة تشجع على التكاثر هتبقى مفيدة للجينات وغالباً هتنتشر أكتر بين الناس وترتبط بثقافتهم. فزى مالجينات بتتحكم فى غرائزنا ووظائفنا العضوية، الميمات بتتحكم فى أفكارنا وثقافتنا. كمان نقدر نشوف الموضوع وكأن الجينات بعد ما قدرت تطور الكائنات أو الsurvival machines لحد ما كونوا العقل بتاعهم، فالميمات هى اللى بتكلم المسيرة وبتقود عجلة التطور واللى هتمشى بوتيرة أسرع بكتير جداً من أى وقت قبل كدة.

خبر سار

إذا مات ابن آدم ترك وراه حاجتين: جيناته وميماته. فأما عن الجينات فهى فى خلال 3 أجيال هتتبعتر وتندثر، لكن الميميات عندها فرصة أكبر فى البقاء لفترة أطول بكتير ويمكن للأبد، وده قد يتمثل فى صورة عمل فنى أو اختراع مفيد للبشرية أو فكرة عبقرية أو غيرها من الحاجات اللى الإنسان ممكن يسيب فيها بصمة ويخلد وجوده من غير ما يحتاج يخلف ولا حاجة.

فحد زى سقراط لو كان شخص حقيقى وربنا كرمه اوى هيبقى متبقى منه جين ولا اتنين بالكتير فى الgene pool دلوقتى، لكن أفكاره ما زالت موجودة لحد دلوقتى. نفس الكلام على حد زى نيوتن مخلفش ولا سابلنا أى حاجة من جيناته لكن أثر علمه ملموس فى حياتنا دلوقتى. وغيرهم بقى من البشر سواء كانوا معروفين أو غير معروفين سابوا بصمات تخلد وجودهم فى هذا العالم العجيب اللى مش عارفينله أول من أخر.

Comments